قبرص- صراع استراتيجي للأمن التركي وهيمنة المتوسط

المؤلف: سمير العركي10.18.2025
قبرص- صراع استراتيجي للأمن التركي وهيمنة المتوسط

في أعقاب الاحتفالات الصاخبة بالذكرى الخمسين للعملية العسكرية التركية في شمال قبرص، أدلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتصريحات مدوية للصحفيين، مبينًا أنه "إذا لزم الأمر فسنبني قاعدة بحرية في الشمال، فلدينا بحر أيضًا". جاءت هذه الكلمات القوية ردًا على سؤال بشأن مساعي اليونان الحثيثة لإنشاء قاعدة بحرية في جنوب الجزيرة، المنطقة التي يسكنها القبارصة اليونانيون.

الجدير بالذكر أن هذه الاحتفالات لم تكن مجرد استعراض تقليدي، بل تظاهرة عسكرية مهيبة تجسدت فيها قوة تركيا في شمال قبرص، وحملت في طياتها رسائل واضحة ومباشرة إلى جميع أطراف الأزمة، سواء في اليونان أو في أروقة الاتحاد الأوروبي. شارك في هذا العرض العسكري الضخم ما يقارب 50 قطعة بحرية متنوعة، بالإضافة إلى 3 طائرات دورية بحرية متخصصة، و9 مروحيات متطورة، ومسيرة بيرقدار تي بي الشهيرة، والطائرة بدون طيار بيرقدار قزل إلما المتطورة، فضلاً عن مقاتلات "إف-16" العريقة التابعة لسلاح الجو التركي.

تجدر الإشارة أيضًا إلى أن تركيا كانت قد عمدت في وقت سابق إلى نشر طائرات مسيرة في شمال قبرص، وهو الأمر الذي كشف عنه الرئيس أردوغان بنفسه في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2022.

هذه الأجواء المشحونة بالتوتر أعادت إلى الأذهان ملف الجزيرة الشائك، الذي يعاني من انقسام فعلي مستمر منذ عقود طويلة، ولم تفلح المبادرات الدولية المتعددة والمتنوعة في إيجاد حل جذري له. فعلى سبيل المثال، المبادرة التي تقدم بها الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي أنان، لأول مرة في عام 2002، والتي عرفت بـ "خطة أنان"، والتي شكلت أساس الحوار والنقاش بشأن مستقبل الجزيرة لفترة طويلة، قد طواها النسيان ولم تعد صالحة للتطبيق، بحسب تأكيد الرئيس أردوغان نفسه.

فـ"خطة أنان" كانت تعتمد بشكل أساسي على فكرة الحل الفدرالي، الذي يهدف إلى الجمع تحت مظلته دولتين منفصلتين، إحداهما خاصة بالقبارصة الأتراك، والأخرى بالقبارصة اليونانيين.

على الرغم من ذلك، لم تشهد الأزمة أي تطور ملحوظ أو تقدم حقيقي، الأمر الذي أدى إلى تحول في القناعات الإستراتيجية لتركيا، وذلك في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة، والتحديات الجسام التي تواجهها أنقرة في منطقة بحر إيجه، وشرق البحر الأبيض المتوسط، بالتزامن مع تعاظم القدرات الدفاعية التركية وتطورها الملحوظ. كل هذه العوامل مجتمعة قادت تركيا إلى تطوير مفهومها الشامل للأمن القومي، والدور المحوري الذي ينبغي أن تلعبه في الأعماق الإستراتيجية المحيطة بها.

الأهمية الإستراتيجية لقبرص

اعتمدت العديد من الدراسات الأكاديمية الموثوقة المقاربة الديمغرافية كمنطلق أساسي لتفسير السلوك التركي تجاه الجزيرة، مع التركيز على وجود القبارصة الأتراك في الجزيرة، لكن هذه المقاربة تمثل جزءًا من الحقيقة، لكنها بالتأكيد ليست الحقيقة كاملة. فلو لم يكن هناك مواطن تركي واحد في الجزيرة، لكان من الضروري على تركيا من الناحية الإستراتيجية أن تضع قدمًا راسخة لها في الجزيرة، نظرًا لأهميتها الجيوستراتيجية الفائقة.

فقبرص تعتبر نقطة وصل حيوية بين ثلاث قارات متباينة، هي: أوروبا، وآسيا، وأفريقيا، وهي ثالث أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط من حيث المساحة، وتتميز بقربها الشديد من دول شرق المتوسط، مثل: تركيا، وسوريا، ولبنان، ومصر. وهذا يعني أنه لا يمكن لأي دولة ذات طموحات إقليمية ودولية واسعة أن تتجاهل الجزيرة أو تستبعدها من حساباتها الإستراتيجية.

كما أن موقع الجزيرة المتميز ساهم في منحها مزايا عسكرية ودفاعية كبيرة، وهو ما دفع بريطانيا إلى الاحتفاظ بقاعدتين عسكريتين على أراضيها حتى الآن، في حين أن الشطر اليوناني من الجزيرة يلعب أدوارًا لوجستية حيوية للقوات الأميركية وحلفائها في المنطقة.

في أعقاب عملية طوفان الأقصى الأخيرة، استخدمت القوات الغربية القواعد العسكرية القبرصية، بحجة القيام بعمليات إجلاء لرعاياها، لكن تركيا اتهمت القبارصة اليونانيين بشكل صريح وواضح، بتقديم الدعم لإسرائيل في عدوانها الغاشم على غزة، حيث أكد الرئيس أردوغان على أن "الشراكة في المجازر التي ترتكبها إسرائيل لا تصب في مصلحة القبارصة الروم (اليونانيين) ولا اليونان".

أيضًا، تتمتع الجزيرة باحتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعي، فحقل أفروديت – على سبيل المثال – الذي تم اكتشافه في أواخر عام 2011، تقدر الاحتياطيات المتوقعة فيه بحوالي 9 تريليونات قدم مكعبة من الغاز، بالإضافة إلى وجود حقول أخرى واعدة.

لكن هذه الاحتياطيات الهائلة أشعلت فتيل التوتر والصراع، حيث ترتكز الرؤية التركية على عدم السماح للجزء الجنوبي اليوناني من الجزيرة بالاستئثار بهذه الثروة الهائلة، دون الأخذ في الاعتبار حقوق القبارصة الأتراك المشروعة. من هنا، فإن بناء تفسيرات للسياسات التركية تجاه قبرص تعتمد فقط على البعد الإثني، أو الصراع التاريخي مع اليونان، مع إغفال الأهمية القصوى التي تمثلها الجزيرة للأمن القومي التركي، هي مقاربات قاصرة وغير مكتملة.

قبرص والأمن التركي

لا تزال تركيا تعاني من تبعات التشوهات الجيوستراتيجية التي لازمتها منذ تأسيس الجمهورية على أنقاض الدولة العثمانية المترامية الأطراف. فالعثمانيون امتلكوا أسطولًا حربيًا قويًا ومميزًا ضمن لهم السيطرة والنفوذ في منطقة البحر الأبيض المتوسط لفترة طويلة، إلى أن دب الضعف في الإمبراطورية العثمانية، وصولًا إلى هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، ومن ثم نهايتها الرسمية.

ارتكز تخطيط الحلفاء لتركيا ما بعد العثمانية على منع عودة تلك الهيمنة والنفوذ البحري التركي في أي وقت من الأوقات، وذلك من خلال منع تمددها في البحر الأبيض المتوسط، وحبسها داخل حدودها وشواطئها، على الرغم من امتلاكها سواحل طويلة تمتد على بحري إيجه والمتوسط، ويقدر طولها بأكثر من 4 آلاف كيلومتر. فعقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، سيطرت كل من اليونان وإيطاليا على العديد من جزر بحر إيجه، ثم تنازلت عنها تركيا بموجب معاهدة لوزان، مقابل تعهد كل من أثينا وروما بعدم تسليح الجزر القريبة من السواحل التركية.

خلال الحرب العالمية الثانية، تنازلت إيطاليا عن هذه الجزر لصالح ألمانيا النازية، التي سرعان ما سلمتها لبريطانيا عقب هزيمتها، والتي بدورها منحتها لليونان مرة أخرى، بشرط عدم تسليحها، إلا أن الأخيرة أخلت بهذا الشرط الصريح وقامت بتسليح ما يقارب 18 جزيرة حتى الآن!

إن انتقال هذه الجزر من دولة إلى أخرى دون التفكير في إعادتها إلى تركيا مرة أخرى، يؤكد التصميم الغربي الراسخ على عدم منح تركيا الفرصة لإعادة التموضع الإستراتيجي في بحري إيجه والمتوسط، من خلال استغلال هذه الجزر القريبة من سواحلها.

فجزيرة كاستيلوريزو "ميس" على سبيل المثال، التي تبلغ مساحتها حوالي 12 كيلومترًا مربعًا فقط، ويقطنها أقل من 500 نسمة، لا يفصلها عن مدينة أنطاليا التركية سوى كيلومترين فقط، إلا أن تبعيتها لليونان منحت أثينا مزايا إستراتيجية هائلة، حيث منحتها جرفًا قاريًا بمساحة تقارب 40 ألف كيلومتر مربع، على الرغم من أنها تبعد عنها بحوالي 580 كيلومترًا.

من هنا، تمثل قبرص أهمية إستراتيجية قصوى لتركيا من أجل فك هذا الحصار البحري المفروض عليها منذ عقود طويلة، وتمزيق ما يعرف بنظرية "خرائط إشبيلية" التي ظهرت إلى الوجود في عام 2004، والتي تمنح كل جزيرة يونانية، مهما صغر حجمها ومساحتها، منطقة اقتصادية خالصة بطول 370 كيلومترًا، بحيث لا يتبقى لتركيا إلا شواطئها للاستجمام والترفيه فقط!

كما أن الوجود التركي القوي في قبرص سيعزز من قوة نظرية "الوطن الأزرق" التي ظهرت إلى الوجود في عام 2006، والتي تشير إلى المساحات الشاسعة التي يمكن أن تضيفها المياه الإقليمية لتركيا في البحر الأسود، وبحر مرمرة، وبحر إيجه، والبحر الأبيض المتوسط، والتي تقدر بحوالي 462 ألف كيلومتر مربع إلى المساحة الحالية لتركيا.

لهذا، لم يكن حديث الرئيس أردوغان عن إمكانية بناء قاعدة بحرية تركية في قبرص الشمالية هو الأول من نوعه، فقد سبق أن قدمت القوات البحرية التركية، قبل نحو خمس سنوات، مقترحًا مفصلاً بشأن الحاجة الملحة إلى إنشاء قاعدة بحرية في شمال قبرص، وذلك بهدف دعم القبارصة الأتراك في المفاوضات، والحفاظ على حقوقهم المشروعة، وحماية حقوق تركيا في ثروات شرق البحر الأبيض المتوسط.

وفي تقديري الشخصي، فإن هذا التوتر المتصاعد بين تركيا وبين "حلفائها" المفترضين، مرشح للازدياد والتفاقم في المستقبل القريب، وذلك في ظل الأدوار الإستراتيجية الحالية والمستقبلية التي تؤديها الجزيرة لجميع الأطراف المعنية، والتي تجعل من المستحيل التخلي عنها أو التفريط فيها بأي حال من الأحوال.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة